الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
قال ابن العربي: هذا دليل على أن القياس أصل في الدين ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجؤوا إلى قياس الشبه عند عدم النص ورأوا أن قصة [براءة] شبيهة بقصة [الأنفال] فألحقوها بها؟ فإذا كان الله تعالى قد بين دخول القياس في تأليف القرآن فما ظنك بسائر الأحكام. {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين} قوله تعالى{براءة} تقول: برئت من الشيء أبرأ براءة فأنا منه بريء إذا أزلته عن نفسك وقطعت سبب ما بينك وبينه. و}براءة} رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هذه براءة. ويصح أن ترفع بالابتداء. والخبر في قوله{إلى الذين}. وجاز الابتداء بالنكرة لأنها موصوفة فتعرفت تعريفا ما وجاز الإخبار عنها. وقرأ عيسى بن عمر }براءة} بالنصب على تقدير التزموا براءة ففيها معنى الإغراء. وهي مصدر على فعالة كالشناءة والدناءة. قوله تعالى{إلى الذين عاهدتم من المشركين} يعني إلى الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان المتولي للعقود وأصحابه بذلك كلهم راضون فكأنهم عاقدوا وعاهدوا فنسب العقد إليهم. وكذلك ما عقده أئمة الكفر على قومهم منسوب إليهم محسوب عليهم يؤاخذون به إذ لا يمكن غير ذلك فإن تحصيل الرضا من الجميع متعذر فإذا عقد الإمام لما يراه من المصلحة أمرا لزم جميع الرعايا. {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين} قوله تعالى{فسيحوا} رجع من الخبر إلى الخطاب أي قل لهم سيحوا أي سيروا في الأرض مقبلين ومدبرين آمنين غير خائفين أحدا من المسلمين بحرب ولا سلب ولا قتل ولا أسر. يقال ساح فلان في الأرض يسيح سياحة وسيوحا وسيحانا ومنه السيح في الماء الجاري المنبسط ومنه قول طرفة بن العبد: واختلف العلماء في كيفية هذا التأجيل وفي هؤلاء الذين برئ الله منهم ورسوله. فقال محمد بن إسحاق وغيره: هما صنفان من المشركين أحدهما كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر فأمهل تمام أربعة أشهر والآخر كانت مدة عهده بغير أجل محدود فقصر به على أربعة أشهر ليرتاد لنفسه. ثم هو حرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين يقتل حيث ما أدرك ويؤسر إلا أن يتوب وابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر وانقضاؤه إلى عشر من شهر ربيع الآخر فأما من لم يكن له عهد فإنما أجله انسلاخ الأربعة الأشهر الحرم وذلك خمسون يوما: عشرون من ذي الحجة والمحرم. وقال الكلبي: إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد دون أربعة أشهر ومن كان عهده أكثر من أربعة أشهر فهو الذي أمر الله أن يتم له عهده بقوله كنت لنا أبا وكنا ولدا ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرا عتدا وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا أبيض مثل الشمس ينمو صعدا
إن سيم خسفا وجهه تربدا في فليق كالبحر يجري مربدا
إن قريش أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وزعموا أن لست تدعو أحدا وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالوتير هجدا وقتلونا ركعا وسجدا وأنشدها إلى آخرها، وذكر فيها المهاجرين فأثنى عليهم - وكان قبل دلك قد حفظ له هجاء في النبي صلى الله عليه وسلم - فعاب عليه الأنصار إذ لم يذكرهم، فغدا على النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدة يمتدح فيها الأنصار فقال: ورثوا المكارم كابرا عن كابر إن الخيار هم بنو الأخيار
المكرهين السمهري بأذرع كسوافل الهندي غير قصار
والناظرين بأعين محمرة كالجمر غير كليلة الأبصار
والبائعين نفوسهم لنبيهم للموت يوم تعانق وكرار
يتطهرون يرونه نسكا لهم بدماء من علقوا من الكفار
دربوا كما دربت ببطن خفية غلب الرقاب من الأسود ضوار
وإذا حللت ليمنعوك إليهم أصبحت عند معاقل الأغفار
ضربوا عليا يوم بدر ضربة دانت لوقعتها جميع نزار
لو يعلم الأقوام علمي كله فيهم لصدقني الذين أماري
قوم إذا خوت النجوم فإنهم للطارقين النازلين مقاري ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد انصرافه من الطائف ذا الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وربيع الآخر وجمادى الأول وجمادى الآخر، وخرج في رجب من سنة تسع بالمسلمين إلى غزوة الروم غزوة تبوك. وهي شخر غزوة غزاها. قال العلماء: وتضمنت الآية جواز قطع العهد بيننا وبين المشركين. ولذلك حالتان: حالة تنقضي المدة بيننا وبينهم فنؤذنهم بالحرب. والإيذان اختيار. والثانية: أن نخاف منهم غدرا، فننبذ إليهم عهدهم كما سبق. ابن عباس: والآية منسوخة فإن النبي صلى الله عليه وسلم عاهد ثم نبذ العهد لما أمر بالقتال. {وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم} قوله تعالى{وأذان} الأذان: الإعلام لغة من غير خلاف. وهو عطف على }براءة}. }إلى الناس} الناس هنا جميع الخلق. }يوم الحج الأكبر} ظرف، والعامل فيه }أذان}. وإن كان قد وصف بقوله{من الله}، فإن رائحة الفعل فيه باقية، وهي عاملة في الظروف. وقيل: العامل فيه }مخزي} ولا يصح عمل }أذان}، لأنه قد وصف فخرج عن حكم الفعل. واختلف العلماء في الحج الأكبر، فقيل: يوم عرفة. روي عن عمر وعثمان وابن عباس وطاوس ومجاهد. وهو مذهب أبي حنيفة، وبه قال الشافعي. وعن علي وابن عباس أيضا وابن مسعود وابن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة أنه يوم النحر. واختاره الطبري. قوله تعالى{أن الله بريء من المشركين ورسوله} }أن} بالفتح في موضع نصب. والتقدير بأن الله. ومن قرأ بالكسر قدره بمعنى قال إن الله }بريء} خبر أن. }ورسوله} عطف على الموضع، وإن شئت على المضمر المرفوع في }بريء}. كلاهما حسن؛ لأنه قد طال الكلام. وإن شئت على الابتداء والخبر محذوف؛ التقدير: ورسوله بريء منهم. ومن قرأ }ورسوله} بالنصب - وهو الحسن وغيره - عطفه على اسم الله عز وجل على اللفظ. وفي الشواذ }رسوله} بالخفض على القسم، أي وحق رسوله؛ ورويت عن الحسن. وقد تقدمت قصة عمر فيها أول الكتاب. }فإن تبتم} أي عن الشرك. }فهو خير لكم} أي أنفع لكم. }وإن توليتم} أي عن الإيمان. }فاعلموا أنكم غير معجزي الله} أي فائتيه؛ محيط بكم ومنزل عقابه عليكم. {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين} قوله تعالى{إلا الذين عاهدتم من المشركين} في موضع نصب بالاستثناء المتصل، المعنى: أن الله بريء من المشركين إلا من المعاهدين في مدة عهدهم. وقيل: الاستثناء منقطع، أي أن الله بريء منهم ولكن الذين عاهدتم فثبتوا على العهد فأتموا إليهم عهدهم. وقوله{ثم لم ينقصوكم} يدل على أنه كان من أهل العهد من خاس بعهده ومنهم من ثبت على الوفاء، فأذن الله سبحانه لنبييه صلى الله عليه وسلم في نقض عهد من خاس، وأمر بالوفاء لمن بقي على عهده إلى مدته. ومعنى }لم ينقصوكم} أي من شروط العهد شيئا. }ولم يظاهروا} لم يعاونوا. وقرأ عكرمة وعطاء بن يسار }ثم لم ينقضوكم} بالضاد معجمة على حذف مضاف، التقدير ثم لم ينقضوا عهدهم. يقال: إن هذا مخصوص يراد به بنو ضمرة خاصة. ثم قال{فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم} أي وإن كانت أكثر من أربعة أشهر. {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم} قوله تعالى{فإذا انسلخ الأشهر الحرم} أي خرج. وسلخت الشهر إذا صرت في أواخر أيامه، تسلخه سلخا وسلوخا بمعنى خرجت منه. وقال الشاعر: وانسلخ الشهر وانسلخ النهار من الليل المقبل. وسلخت المرأة درعها نزعته وفي التنزيل والأشهر الحرم فيها للعلماء قولان: قيل هي الأشهر المعروفة، ثلاثة سرد وواحد فرد. قال الأصم: أريد به من لا عقد له من المشركين، فأوجب أن يمسك عن قتالهم حتى ينسلخ الحرم، وهو مدة خمسين يوما على ما ذكره ابن عباس، لأن النداء كان بذلك يوم النحر. وقد تقدم هذا. وقيل: شهور العهد أربعة، قاله مجاهد وابن إسحاق وابن زيد وعمرو بن شعيب. وقيل لها حرم لأن الله حرم على المؤمنين فيها دماء المشركين والتعرض لهم إلا على سبيل الخير. قوله تعالى{فاقتلوا المشركين} عام في كل مشرك، لكن السنة خصت منه ما تقدم بيانه في سورة }البقرة} من امرأة وراهب وصبي وغيرهم. وقال الله تعالى في أهل الكتاب{حتى يعطوا الجزية}. إلا أنه يجوز أن يكون لفظ المشركين لا يتناول أهل الكتاب، ويقتضي ذلك منع أخذ الجزية من عبدة الأوثان وغيرهم، على ما يأتي بيانه. واعلم أن مطلق قوله{اقتلوا المشركين} يقتضي جواز قتلهم بأي وجه كان، إلا أن الأخبار وردت بالنهي عن المثلة. ومع هذا فيجوز أن يكون الصديق رضي الله عنه حين قتل أهل الردة بالإحراق بالنار، وبالحجارة وبالرمي من رؤوس الجبال، والتنكيس في الآبار، تعلق بعموم الآية. وكذلك إحراق علي رضي الله عنه قوما من أهل الردة يجوز أن يكون ميلا إلى هذا المذهب، واعتمادا على عموم اللفظ. والله أعلم. قوله تعالى{حيث وجدتموهم} عام في كل موضع. وخص أبو حنيفة رضي الله عنه المسجد الحرام، كما سبق في سورة }البقرة} ثم اختلفوا، فقال الحسين بن الفضل: نسخت هذه كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء. وقال الضحاك والسدي وعطاء: هي منسوخة بقوله قوله تعالى{واقعدوا لهم كل مرصد} المرصد: الموضع الذي يرقب فيه العدو، يقال: رصدت فلانا أرصده، أي رقبته. أي اقعدوا لهم في مواضع الغرة حيث يرصدون. قال عامر بن الطفيل: وقال عدي: وفي هذا دليل على جواز اغتيالهم قبل الدعوة. ونصب }كل} على الظرف، وهو اختيار الزجاج، ويقال: ذهبت طريقا وذهبت كل طريق. أو بإسقاط الخافض، التقدير: في كل مرصد وعلى كل مرصد، فيجعل المرصد اسما للطريق. وخطأ أبو علي الزجاج في جعله الطريق ظرفا وقال: الطريق مكان مخصوص كالبيت والمسجد، فلا يجوز حذف حرف الجر منه إلا فيما ورد فيه الحذف سماعا، كما حكى سيبويه: دخلت الشام ودخلت البيت، وكما قيل: قوله تعالى{فإن تابوا} أي من الشرك. }وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} هذه الآية فيها تأمل، وذلك أن الله تعالى علق القتل على الشرك، ثم قال{فإن تابوا}. والأصل أن القتل متى كان الشرك يزول بزواله، ودلك يقتضي زوال القتل بمجرد التوبة، من غير اعتبار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولذلك سقط القتل بمجرد التوبة قبل وقت الصلاة والزكاة. وهذا بين في هدا المعنى، غير أن الله تعالى ذكر التوبة وذكر معها شرطين آخرين، فلا سبيل إلى إلغائهما. نظيره هذه الآية دالة على أن من قال: قد تبت أنه لا يجتزأ بقوله حتى ينضاف إلى ذلك أفعاله المحققة للتوبة، لأن الله عز وجل شرط هنا مع التوبة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ليحقق بهما التوبة. وقال في آية الربا {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون} قوله تعالى{وإن أحد من المشركين} أي من الذين أمرتك بقتالهم. }استجارك} أي سأل جوارك، أي أمانك وذمامك، فأعطه إياه ليسمع القرآن، أي يفهم أحكامه وأوامره ونواهيه. فإن قبل أمرا فحسن، وإن أبى فرده إلى مأمنه. وهذا ما لا خلاف فيه. والله أعلم. قال مالك: إذا وجد الحربي في طريق بلاد المسلمين فقال: جئت أطلب الأمان. قال مالك: هذه أمور مشتبهة، وأرى أن يرد إلى مأمنه. قال ابن قاسم: وكذلك الذي يوجد وقد نزل تاجرا بساحلنا فيقول: ظننت ألا تعرضوا لمن جاء تاجرا حتى يبيع. وظاهر الآية إنما هي فيمن يريد سماع القرآن والنظر في الإسلام، فأما الإجارة لغير ذلك فإنما هي لمصلحة المسلمين والنظر فيما تعود عليهم به منفعته. ولا خلاف بين كافة العلماء أن أمان السلطان جائز، لأنه مقدم للنظر والمصلحة، نائب عن الجميع في جلب المنافع ودفع المضار. واختلفوا في أمان غير الخليفة، فالحر يمضي أمانه عند كافة العلماء. إلا أن ابن حبيب قال: ينظر الإمام فيه. وأما العبد فله الأمان في مشهور المذهب، وبه قال الشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق والأوزاعي والثوري وأبو ثور وداود ومحمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة: لا أمان له، وهو القول الثاني لعلمائنا. والأول أصح، قوله تعالى{وإن أحد} }أحد} مرفوع بإضمار فعل كالذي بعده. وهذا حسن في }إن} وقبيح في أخواتها. ومذهب سيبويه في الفرق بين }إن} وأخواتها، أنها لما كانت أم حروف الشرط خصت بهذا، ولأنها لا تكون في غيره. وقال محمد بن يزيد: أما قوله - لأنها لا تكون في غيره - فغلط، لأنها تكون بمعنى - ما - ومخففة من الثقيلة ولكنها مبهمة، وليس كذا غيرها. وأنشد سيبويه: قال العلماء في قوله تعالى{حتى يسمع كلام الله} دليل على أن كلام الله عز وجل مسموع عند قراءة القارئ، قاله الشيخ أبو الحسن والقاضي أبو بكر وأبو العباس القلانسي وابن مجاهد وأبو إسحاق الإسفراييني وغيرهم، لقوله تعالى{حتى يسمع كلام الله} فنص على أن كلامه مسموع عند قراءة القارئ لكلامه. ويدل عليه إجماع المسلمين على أن القارئ إذا قرأ فاتحة الكتاب أو سورة قالوا: سمعنا كلام الله. وفرقوا بين أن يقرأ كلام الله تعالى وبين أن يقرأ شعر امرئ القيس. وقد مضى في سورة }البقرة} معنى كلام الله تعالى، وأنه ليس بحرف ولا صوت، والحمد لله. {كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين} قوله تعالى{كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام} كيف هنا للتعجب، كما تقول: كيف يسبقني فلان أي لا ينبغي أن يسبقني. و}عهد} اسم يكون. وفي الآية إضمار، أي كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر، كما قال: التقدير: فكيف مات، عن الزجاج. وقيل: المعنى كيف يكون للمشركين عهد عند الله يأمنون به عذابه غدا، وكيف يكون لهم عند رسوله عهد يأمنون به عذاب الدنيا. ثم استثنى فقال{إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام}. قال محمد بن إسحاق: هم بنو بكر، أي ليس العهد إلا لهؤلاء الذين لم ينقضوا ولم ينكثوا. }فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين أي فما أقاموا على الوفاء بعهدكم فأقيموا لهم على مثل ذلك ابن زيد: فلم يستقيموا فضرب لهم أجلا أربعة أشهر فأما من لا عهد له فقاتلوه حيث وجدتموه إلا أن يتوب. {كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون} قوله تعالى{كيف وإن يظهروا عليكم} أعاد التعجب من أن يكون لهم عهد مع خبث أعمالهم، أي كيف يكون لهم عهد وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة. يقال: ظهرت على فلان أي غلبته، وظهرت البيت علوته، ومنه قوله تعالى{لا يرقبوا فيكم} }يرقبوا} يحافظوا. والرقيب الحافظ. وقد تقدم. }إلا} عهدا، عن مجاهد وابن زيد. وعن مجاهد أيضا: هو اسم من أسماء الله عز وجل. ابن عباس والضحاك: قرابة. الحسن: جوارا. قتادة: حلفا، و}ذمة} عهدا. أبو عبيدة: يمينا. وعنه أيضا: إلا العهد، والذمة التذمم. الأزهري: اسم الله بالعبرانية، وأصله من الأليل وهو البريق، يقال أل لونه يؤل ألا، أي صفا ولمع. وقيل: أصله من الحدة، ومنه الألة للحربة، ومنه أذن مؤللة أي محددة. ومنه قول طرفة بن العبد يصف أذني ناقته بالحدة والانتصاب. فإذا قيل للعهد والجوار والقرابة }إل} فمعناه أن الأذن تصرف إلى تلك الجهة، أي تحدد لها. والعهد يسمى }إلا} لصفائه وظهوره. ويجمع في القلة آلال. وفي الكثرة إلال. وقال الجوهري وغيره: الإل بالكسر هو الله عز وجل، والإل أيضا العهد والقرابة. قال حسان: قوله تعالى{ولا ذمة} أي عهدا. وهي كل حرمة يلزمك إذا ضيعتها ذنب. قال ابن عباس والضحاك وابن زيد: الذمة العهد. ومن جعل الإل العهد فالتكرير لاختلاف اللفظين. وقال أبو عبيدة معمر: الذمة التذمم. وقال أبو عبيد: الذمة الأمان في أنكزتها أذهبت ماءها. وأهل الذمة أهل العقد. قوله تعالى{يرضونكم بأفواههم} أي يقولون بألسنتهم ما يرضي ظاهره. }وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون} أي ناقضون العهد. وكل كافر فاسق، ولكنه أراد ههنا المجاهرين بالقبائح ونقض العهد. {اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون} يعني المشركين في نقضهم العهود بأكلة أطعمهم إياها أبو سفيان، قاله مجاهد. وقيل: إنهم استبدلوا بالقرآن متاع الدنيا. }فصدوا عن سبيله} أي أعرضوا، من الصدود أو منعوا عن سبيل الله، من الصد. {لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون} قال النحاس: ليس هذا تكريرا، ولكن الأول لجميع المشركين والثاني لليهود خاصة. والدليل على هذا }اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا} يعني اليهود، باعوا حجج الله عز وجل وبيانه بطلب الرياسة وطمع في شيء. }وأولئك هم المعتدون} أي المجاوزون الحلال إلى الحرام بنقض العهد. {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون} قوله تعالى{فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة} أي عن الشرك والتزموا أحكام الإسلام. }فإخوانكم} أي فهم إخوانكم }في الدين}. قال ابن عباس: حرمت هذه دماء أهل القبلة. وقد تقدم هذا المعنى. وقال ابن زيد: افترض الله الصلاة والزكاة وأبى أن يفرق بينهما وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة. وقال ابن مسعود: أمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزك فلا صلاة له. قوله تعالى{ونفصل الآيات} أي نبينها. }لقوم يعلمون} خصهم لأنهم هم المنتفعون بها. والله أعلم. {وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون} قوله تعالى{وإن نكثوا أيمانهم} النكث النقض، وأصله في كل ما قتل ثم حل. فهي في الأيمان والعهود مستعارة. قال: أي عهد. }وطعنوا في دينكم} أي بالاستنقاض والحرب وغير ذلك مما يفعله المشرك. يقال: طعنه بالرمح وطعن بالقول السيء فيه يطعن، بضم العين فيهما. وقيل: يطعن بالرمح - بالضم - ويطعن بالقول - بالفتح - . وهي هنا استعارة، استدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب قتل كل من طعن في الدين، إذ هو كافر. والطعن أن ينسب إليه ما لا يليق به، أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدين، لما ثبت من الدليل القطعي على صحة أصوله واستقامة فروعه. وقال ابن المنذر: أجمع عامة أهل العلم على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم عليه القتل. وممن قال ذلك مالك والليث وأحمد وإسحاق، وهو مذهب الشافعي. وقد حكي عن النعمان أنه قال: لا يقتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة، على ما يأتي. وروي أن رجلا قال في مجلس علي: ما قتل كعب بن الأشرف إلا غدرا، فأمر علي بضرب عنقه. وقال آخر في مجلس معاوية فقام محمد بن مسلمة فقال: أيقال هذا في مجلسك وتسكت والله لا أساكنك تحت سقف أبدا، ولئن خلوت به لأقتلنه. قال علماؤنا: هذا يقتل ولا يستتاب إن نسب الغدر للنبي صلى الله عليه وسلم. وهو الذي فهمه علي ومحمد بن مسلمة رضوان الله عليهما من قائل ذلك، لأن ذلك زندقة. فأما إن نسبه للمباشرين لقتله بحيث يقول: إنهم أمنوه ثم غدروه لكانت هذه النسبة كذبا محضا، فإنه ليس في كلامهم معه ما يدل على أنهم أمنوه ولا صرحوا له بذلك، ولو فعلوا ذلك لما كان أمانا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما وجههم لقتله لا لتأمينه، وأذن لمحمد بن مسلمة في أن يقول. وعلى هذا فيكون في قتل من نسب ذلك لهم نظر وتردد. وسببه هل يلزم من نسبة الغدر لهم نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه قد صوب فعلهم ورضي به فيلزم منه أنه قد رضي بالغدر ومن صرح بذلك قتل، أولا يلزم من نسبة الغدر لهم نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يقتل. وإذا قلنا لا يقتل، فلا بد من تنكيل ذلك القائل وعقوبته بالسجن، والضرب الشديد والإهانة العظيمة. فأما الذمي إذا طعن في الدين انتقض عهده في المشهور من مذهب مالك، لقوله{وإن نكثوا أيمانهم} الآية. فأمر بقتلهم وقتالهم. وهو مذهب الشافعي رحمه الله. وقال أبو حنيفة في هذا: إنه يستتاب، وإن مجرد الطعن لا ينقض به العهد إلا مع وجود النكث، لأن الله عز وجل إنما أمر بقتلهم بشرطين: أحدهما نقضهم العهد، والثاني طعنهم في الدين. قلنا: إن عملوا بما يخالف العهد انتقض عهدهم، وذكر الأمرين لا يقتضي توقف قتاله على وجودهما، فإن النكث يبيح لهم ذلك بانفراده عقلا وشرعا. وتقدير الآية عندنا: فإن نكثوا عهدهم حل قتالهم، وإن لم ينكثوا بل طعنوا في الدين مع الوفاء بالعهد حل قتالهم. وقد روي أن عمر رفع إليه ذمي نخس دابة عليها امرأة مسلمة فرمحت فأسقطتها فانكشفت بعض عورتها، فأمر بصلبه في الموضع. إذا حارب الذمي نقض عهده وكان ماله وولده فيئا معه. وقال محمد بن مسلمة: لا يؤاخذ ولده به، لأنه نقض وحده. وقال: أما ماله فيؤخذ. وهذا تعارض لا يشبه منصب محمد بن مسلمة، لأن عهده هو الذي حمى ماله وولده، فإذا ذهب عنه ماله ذهب عنه ولده. وقال أشهب: إذا نقض الذمي العهد فهو على عهده ولا يعود في الرق أبدا. وهذا من العجب، وكأنه رأى العهد معنى محسوسا. وإنما العهد حكم اقتضاه النظر، والتزمه المسلمون له، فإذا نقضه انتقض كسائر العقود. أكثر العلماء على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة أو عرض أو استخف بقدره أو وصفه بغير الوجه الذي كفر به فإنه يقتل، فإنا لم نعطه الذمة أو العهد على هذا. إلا أبا حنيفة والثوري وأتباعهما من أهل الكوفة فإنهم قالوا: لا يقتل، ما هو عليه من الشرك أعظم، ولكن يؤدب ويعزر. والحجة عليه قوله تعالى{وإن نكثوا} الآية. واستدل عليه بعضهم بأمره صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف وكان معاهدا. وتغيظ أبو بكر على رجل من أصحابه فقال أبو برزة: ألا أضرب عنقه فقال: ما كانت لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى الدارقطني واختلفوا إذا سبه ثم أسلم تقية من القتل، فقيل يسقط إسلامه قتله، وهو المشهور من المذهب، لأن الإسلام يجب ما قبله. بخلاف المسلم إذا سبه ثم تاب قال الله عز وجل قوله تعالى{فقاتلوا أئمة الكفر} }أئمة} جمع إمام، والمراد صناديد قريش - في قول بعض العلماء - كأبي جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف. وهذا بعيد، فإن الآية في سورة }براءة} وحين نزلت وقرئت على الناس كان الله قد استأصل شأفة قريش فلم يبق إلا مسلم أو مسالم، فيحتمل أن يكون المراد }فقاتلوا أئمة الكفر}. أي من أقدم على نكث العهد والطعن في الدين يكون أصلا ورأسا في الكفر، فهو من أئمة الكفر على هذا. ويحتمل أن يعنى به المتقدمون والرؤساء منهم، وأن قتالهم قتال لأتباعهم وأنهم لا حرمة لهم. والأصل أأممة كمثال وأمثلة، ثم أدغمت الميم في الميم وقلبت الحركة على الهمزة فاجتمعت همزتان، فأبدلت من الثانية ياء. وزعم الأخفش أنك تقول: هذا أيم من هذا، بالياء. وقال المازني: أوم من هذا، بالواو. وقرأ حمزة }أئمة}. وأكثر النحويين يذهب إلى أن هذا لحن، لأنه جمع بين همزتين في كلمة واحدة. }إنهم لا أيمان لهم} أي لا عهود لهم، أي ليست عهودهم صادقة يوفون بها. وقرأ ابن عامر }لا إيمان لهم} بكسر الهمزة من الإيمان، أي لا إسلام لهم. ويحتمل أن يكون مصدر آمنته إيمانا، من الأمن الذي ضده الخوف، أي لا يؤمنون، من آمنته إيمانا أي أجرته، فلهذا قال{فقاتلوا أئمة الكفر}. }لعلهم ينتهون} أي عن الشرك. قال الكلبي: كان النبي صلى الله عليه وسلم وادع أهل مكة سنة وهو بالحديبية فحبسوه عن البيت، ثم صالحوه على أن يرجع فمكثوا ما شاء الله، ثم قاتل حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة حلفاء بني أمية من كنانة، فأمدت بنو أمية حلفاءهم بالسلاح والطعام، فاستعانت خزاعة برسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعين حلفاءه كما سبق. وفى البخاري عن زيد بن وهب قال: كنا عند حذيفة فقال ما بقي من أصحاب هذه الآية - يعني }فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم} - إلا ثلاثة، ولا بقي من المنافقين إلا أربعة. فقال أعرابي: إنكم أصحاب محمد تخبرون أخبارا لا ندري ما هي تزعمون ألا منافق إلا أربعة، فما بال هؤلاء الذين يبقرون بيوتنا ويسرقون أعلافنا قال: أولئك الفساق أجل لم يبق منهم إلا أربعة، أحدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده. }لعلهم ينتهون} أي عن كفرهم وباطلهم وأذيتهم للمسلمين. وذلك يقتضي أن يكون الغرض من قتالهم دفع ضررهم لينتهوا عن مقاتلتنا ويدخلوا في ديننا. {ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين} قوله تعالى{ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم} توبيخ وفيه معنى التحضيض نزلت في كفار مكة كما ذكرنا آنفا. }وهموا بإخراج الرسول} أي كان منهم سبب الخروج، فأضيف الإخراج إليهم. وقيل: أخرجوا الرسول عليه السلام من المدينة لقتال أهل مكة للنكث الذي كان منهم: عن الحسن. }وهم بدؤوكم} بالقتال. }أول مرة} أي نقضوا العهد وأعانوا بني بكر على خزاعة. وقيل: بدؤوكم بالقتال يوم بدر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج للعير ولما أحرزوا عيرهم كان يمكنهم الانصراف، فأبوا إلا الوصول إلى بدر وشرب الخمر بها؛ كما تقدم. }فالله أحق أن تخشوه} أي تخافوا عقابه في ترك قتالهم من أن تخافوا أن ينالكم في قتالهم مكروه. وقيل: إخراجهم الرسول منعهم إياه من الحج والعمرة والطواف، وهو ابتداؤهم. والله أعلم. {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم} قوله تعالى{قاتلوهم} أمر. }يعذبهم الله} جوابه. وهو جزم بمعنى المجازاة: والتقدير: إن تقاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين. }ويذهب غيظ قلوبهم} دليل على أن غيظهم كان قد اشتد. وقال مجاهد: يعني خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكله عطف، ويجوز فيه كله الرفع على القطع من الأول. ويجوز النصب على إضمار (أن) وهو الصرف عند الكوفيين، كما قال: ونأخذ بعده بذناب عيش أجب الظهر ليس له سنام وإن شئت رفعت (ونأخذ) وإن شئت نصبته. والمراد بقوله{ويشف صدور قوم مؤمنين} بنو خزاعة، على ما ذكرنا عن مجاهد. فإن قريشا أعانت بني بكر عليهم، وكانت خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم. فأنشد رجل من بني بكر هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له بعض خزاعة: لئن أعدته لأكسرن فمك، فأعاده فكسر فاه وثار بينهم قتال، فقتلوا من الخزاعيين أقواما، فخرج عمرو بن سالم الخزاعي في نفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره به، فدخل منزل ميمونة وقال: (اسكبوا إلي ماء) فجعل يغتسل وهو يقول: (لا نصرت إن لم أنصر بني كعب). ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتجهز والخروج إلى مكة فكان الفتح. قوله تعالى{ويتوب الله على من يشاء} القراءة بالرفع على الاستئناف لأنه ليس من جنس الأول ولهذا لم يقل (ويتب) بالجزم لأن القتال غير موجب لهم التوبة من الله جل وعز وهو موجب لهم العذاب والخزي وشفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ قلوبهم ونظيره {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون} قوله تعالى{أم حسبتم} خروج من شيء إلى شيء. }أن تتركوا} في موضع المفعولين على قول سيبويه. وعند المبرد أنه قد حذف الثاني. ومعنى الكلام: أم حسبتم أن تتركوا من غير أن تبتلوا بما يظهر به المؤمن والمنافق الظهور الذي يستحق به الثواب والعقاب. وقد تقدم هذا المعنى في غير موضع. }ولما يعلم} جزم بلما وإن كانت ما زائدة، فإنها تكون عند سيبويه جوابا لقولك: قد فعل كما تقدم. وكسرت الميم لالتقاء الساكنين. }وليجة} بطانة ومداخلة من الولوج وهو الدخول ومنه سمي الكناس الذي تلج فيه الوحوش تولجا ولج يلج ولوجا إذا دخل والمعنى: دخيلة مودة من دون الله ورسوله وقال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة والرجل يكون في القوم وليس منهم وليجة وقال ابن زيد: الوليجة الدخيلة والولجاء الدخلاء فوليجة الرجل من يختص بدُخلة أمره دون الناس. تقول: هو وليجتي وهم وليجتي الواحد والجمع فيه سواء قال أبان بن تغلب رحمه الله: وقيل: وليجة بطانة، والمعنى واحد، نظيره {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون} قوله تعالى{ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله} الجملة من }أن يعمروا} في موضع رفع اسم كان. }شاهدين} على الحال. واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقيل: أراد ليس لهم الحج بعد ما نودي فيهم بالمنع عن المسجد الحرام، وكانت أمور البيت كالسدانة والسقاية والرفادة إلى المشركين، فبين أنهم ليسوا أهلا لذلك، بل أهله المؤمنون. وقيل: إن العباس لما أسر وعير بالكفر وقطيعة الرحم قال: تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا. فقال علي: ألكم محاسن؟ قال: نعم إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك العاني، فنزلت هذه الآية ردا عليه. فيجب إذا على المسلمين تولي أحكام المساجد ومنع المشركين من دخولها. وقراءة العامة }يعمر} بفتح الياء وضم الميم، من عمر يعمر. وقرأ ابن السميقع بضم الياء وكسر الميم أي يجعلوه عامرا أو يعينوا على عمارته. وقرئ }مسجد الله} على التوحيد أي المسجد الحرام. وهي قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وابن كثير وأبي عمرو وابن محيصن ويعقوب. والباقون }مساجد} على التعميم. وهو اختيار أبي عبيد، لأنه أعم والخاص به يدخل تحت العام. وقد يحتمل أن يراد بقراءة الجمع المسجد الحرام خاصة. وهذا جائز فيما كان من أسماء الجنس، كما يقال: فلان يركب الخيل وإن لم يركب إلا فرسا. والقراءة }مساجد} أصوب، لأنه يحتمل المعنى. وقد أجمعوا على قراءة قوله{إنما يعمر مساجد الله} على الجمع، قاله النحاس. وقال الحسن: إنما قال مساجد وهو المسجد الحرام، لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها. قوله تعالى{شاهدين} قيل: أراد وهم شاهدون فلما طرح }وهم} نصب. قال ابن عباس: شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم لأصنامهم، وإقرارهم أنها مخلوقة. وقال السدي: شهادتهم بالكفر هو أن النصراني تقول له. ما دينك؟ فيقول نصراني، واليهودي فيقول يهودي والصابئ فيقول صابئ. ويقال للمشرك ما دينك فيقول مشرك. }أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون} تقدم معناه. {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} قوله تعالى{إنما يعمر مساجد الله} دليل على أن الشهادة لعمار المساجد بالإيمان صحيحة لأن الله سبحانه ربطه بها وأخبر عنه بملازمتها. وقد قال بعض السلف: إذا رأيتم الرجل يعمر المسجد فحسنوا به الظن. فإن قيل: فقد أثبت الإيمان في الآية لمن عمر المساجد بالصلاة فيها، وتنظيفها وإصلاح ما وهى منها، وآمن بالله. ولم يذكر الإيمان بالرسول فيها ولا إيمان لمن لم يؤمن بالرسول. قيل له: دل على الرسول ما ذكر من إقامة الصلاة وغيرها لأنه مما جاء به، فإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إنما يصح من المؤمن بالرسول، فلهذا لم يفرده بالذكر. و}عسى} من الله واجبة، عن ابن عباس وغيره. وقيل: عسى بمعنى خليق أي فخليق} أن يكونوا من المهتدين}. {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين} قوله تعالى{أجعلتم سقاية الحاج} التقدير في العربية: أجعلتم أصحاب سقاية الحاج أو أهل سقاية الحاج مثل من آمن بالله وجاهد في سبيله. ويصح أن يقدر الحذف في }من آمن} أي أجعلتم عمل سقي الحاج كعمل من آمن. وقيل: التقدير كإيمان من آمن. والسقاية مصدر كالسعاية والحماية. فجعل الاسم بموضع المصدر إذ علم معناه، مثل إنما السخاء حاتم، وإنما الشعر زهير. وعمارة المسجد الحرام مثل فإن قيل: فعلى هذا يجوز الاستدلال على المسلمين بما أنزل في الكافرين، ومعلوم أن أحكامهم مختلفة. قيل له: لا يستبعد أن ينتزع مما أنزل الله في المشركين أحكام تليق بالمسلمين. وقد قال عمر: إنا لو شئنا لاتخذنا سلائق وشواء وتوضع صحفة وترفع أخرى ولكنا سمعنا قول الله تعالى { الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون} قوله تعالى{الذين آمنوا} في موضع رفع بالابتداء. وخبره }أعظم درجة عند الله}. و}درجة} نصب على البيان، أي من الذين افتخروا بالسقي والعمارة. وليس للكافرين درجة عند الله حتى يقال: المؤمن أعظم درجة. والمراد أنهم قدروا لأنفسهم الدرجة بالعمارة والسقي فخاطبهم على ما قدروه في أنفسهم وإن كان التقدير خطأ كقوله تعالى {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم} قوله تعالى{يبشرهم ربهم} أي يعلمهم في الدنيا ما لهم في الآخرة من الثواب الجزيل والنعيم المقيم. والنعيم: لين العيش ورغده. {خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم} قوله تعالى{خالدين} نصب على الحال. والخلود الإقامة. }إن الله عنده أجر عظيم} أي أعد لهم في دار كرامته ذلك الثواب. {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون} ظاهر هذه الآية أنها خطاب لجميع المؤمنين كافة، وهي باقية الحكم إلى يوم القيامة في قطع الولاية بين المؤمنين والكافرين. وروت فرقة أن هذه الآية إنما نزلت في الحض على الهجرة ورفض بلاد الكفرة. فالمخاطبة على هذا إنما هي للمؤمنين الذين كانوا بمكة وغيرها من بلاد العرب، خوطبوا بألا يوالوا الآباء والإخوة فيكونوا لهم تبعا في سكنى بلاد الكفر. }إن استحبوا} أي أحبوا، كما يقال: استجاب بمعنى أجاب. أي لا تطيعوهم ولا تخصوهم. وخص الله سبحانه الآباء والإخوة إذ لا قرابة أقرب منها. فنفى الموالاة بينهم كما نفاها بين الناس بقوله تعالى فقلت وما تغني ديار قريبة إذا لم يكن بين القلوب قريب
فكم من بعيد الدار نال مراده وآخر جار الجنب مات كئيب ولم يذكر الأبناء في هذه الآية إذ الأغلب من البشر أن الأبناء هم التبع للآباء. والإحسان والهبة مستثناة من الولاية. {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة من مكة إلى المدينة جعل الرجل يقول لأبيه والأب لابنه والأخ لأخيه والرجل لزوجته: إنا قد أمرنا بالهجرة، فمنهم من تسارع لذلك، ومنهم من أبى أن يهاجر، فيقول: والله لئن لم تخرجوا إلى دار الهجرة لا أنفعكم ولا أنفق عليكم شيئا أبدا. ومنهم من تتعلق به امرأته وولده ويقولون له: أنشدك بالله ألا تخرج فنضيع بعدك، فمنهم من يرق فيدع الهجرة ويقيم معهم، فنزلت }يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آبائكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان}. يقول: إن اختاروا الإقامة على الكفر بمكة على الإيمان بالله والهجرة إلى المدينة. }ومن يتولهم منكم} بعد نزول الآية }فأولئك هم الظالمون}. ثم نزل في الذين تخلفوا ولم يهاجروا{قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم} وهي الجماعة التي ترجع إلى عقد واحد كعقد العشرة فما زاد، ومنه المعاشرة وهي الاجتماع على الشيء. }وأموال اقترفتموها} يقول: اكتسبتموها بمكة. وأصل الاقتراف اقتطاع الشيء من مكانه إلى غيره. }وتجارة تخشون كسادها} قال ابن المبارك: هي البنات والأخوات إذا كسدن في البيت لا يجدن لهن خاطبا. قال الشاعر: {ومساكن ترضونها} يقول: ومنازل تعجبكم الإقامة فيها. }أحب إليكم من الله ورسوله من أن تهاجروا إلى الله ورسوله بالمدينة. }وأحب} خبر كان. ويجوز في غير القرآن رفع }أحب} على الابتداء والخبر، واسم كان مضمر فيها. وأنشد سيبويه: وأنشد: وفي الآية دليل على وجوب حب الله ورسوله، ولا خلاف في ذلك بين الأمة، وأن ذلك مقدم على كل محبوب. وقد مضى في }آل عمران} معنى محبة الله تعالى ومحبة رسوله. }وجهاد في سبيله فتربصوا} صيغته صيغة أمر ومعناه التهديد. يقول: انتظروا. وفي قوله{وجهاد في سبيله} دليل على فضل الجهاد، وإيثاره على راحة النفس وعلائقها بالأهل والمال. وسيأتي فضل الجهاد في آخر السورة. وقد مضى من أحكام الهجرة في }النساء} ما فيه كفاية، والحمد لله.
|